جماليات التناص في ديوان ( صهيل
خضرا )
جميلة الرويحي
.....................
بقلم الناقد: عموري السعيد
قسم اللغة العربية وآدابها
جامعة عبد الرحمن ميرة- بجاية- الجزائر.
..................
مقدمة:
عندما نقرأ نصوص جميلة الرويحي الشعرية في ديوانها صهيل خضرا نجد أنفسنا أمام مجموعة متباينة من الخطابات التواصلية الخاصة, فسيفساء بألوان الشاعرية متعددة المصادر والمناهل من تراثنا العربي الغني الذي يتناثر بين طيات القصائد إلى توظيف للأساطير اليونانية؛ حيث تبدو فيها النصوص حلة لغوية منفتحة على القراءة والتأويل بما اكتسبته من غنى دلالي ومكونات رمزية وأسطورية ولغوية تراثية. غير أن هذا الغنى الظاهر في مستويات الكتابة الشعرية عند الشاعرة جميلة الرويحي يطرح عديد الأسئلة تتعلق بالعلاقة التي تبنيها الشاعرة مع القارئ من خلال ما تقدمه من نصوص فنتساءل إلى أي قارئ تبني الشاعرة جسرها الشعري؟ و ما هي اسس بناء قصيدتها وبالتالي ما هي ملامح وأسس شخصيتها الشعرية؟
لمقاربة واستقصاء النص الشعري الرويحي وتحديد ملامحه، تفرض قضية التناص نفسها كقضية نقدية حداثية لها مكانتها عند النقاد الجدد من حيث إن كل النصوص لا يمكن أن تكون وليدة فراغ أو منفصلة عن غيرها مما سبقها أو عاصرها اعترافا من النقد بعلاقات التأثير والتأثر بين النصوص على اختلاف أجناسها وهوياتها، كما أنه دليل على اقتدار الشاعر وتفوقه في صقل موهبته واستعداداته الفنية. من أجل ذلك ولأن نصوص جميلة الرويحي في صهيل خضرا غنية ومتنوعة فقد نلاحظ غياب الشاعرة في نصوصها في بعض الأحيان ويعلو صوت الأستاذة والمعلمة بينما في أحايين أخرى نسمع صوت الشاعرة المرأة التي تخاطب بنص شعري نفسها وقارئا تفترض أنه في مستوى التقاط النص الغائب.
المقالة التالية أردنا من خلالها أن نسلط الضوء على نص الشاعرة والتقاط النص الحقيقي لها أو تحديد النصوص الفاعلة في تشكيل نصوص صهيل خضرا تحت عنوان "جماليات التناص في ديوان صهيل خضرا لجميلة الرويحي" وقد ركزنا فيه على تقنيات واستراتيجيات التناص كما جاء في اللسانيات واللسانيات النفسية، من دون إغفال أصل المصطلح في الدرس العربي التراثي مع الانفتاح على القراءة التأويلية المؤسسة على ما تقدمه استراتيجيات التناص في المدونة الشعرية قيد الدراسة.
تقدم هذه المقالة مساهمة بسيطة لا يمكن أن تفي حق المدونة الشعرية التي يتطلب الوقوف على جماليات التناص فيها دراسة مستفيضة، نظرا لما تزخر به من غنى في الشكل يعكس تعدد مصادر التجربة الشعرية عند جميلة الرويحي.
في مفهوم التناص:
يقرّر لانسون أن" ثلاثة أرباع المبدع مكوّن من غير ذاته" لأنّ عالم الكتابة الإبداعية أو عالم الكلمات يخضع في عرف المبدعين إلى الاختيار أو الطريقة التي يتم فيها التعامل مع الكلمات في عالم لا حدود له، يقول شيكلوفسكي "الفنان ينمو في عالم مليء بكلمات الآخرين، فيبحث في حضنها عن طريقه" . والقصيدة الشعرية هي تركيبة جديدة بكلمات مشتركة بين الآخرين ميزتها أنها بحلة الشاعر وباسمه الخاص وأسلوبه الخاص، يراعي فيها موهبته وحدود تفاعل نصه مع المتلقي في نقاط تقاطع لا بد منها لإتمام فعل التواصل والتفاعل. ولتحديد مفهوم التناص لا بد من أن نحدّد مفهوم النص ذاته؛ لأنّ أي شكل أدبي قصيدة أو رواية أو غيرها يختلف في تحديد مفهومه على حسب رؤية الشكل والوظيفة وكذلك على حسب الخلفيات المنهجية والابستيمولوجية للجنس الأدبي على اعتبار أن الإنتاج الإبداعي يخضع للمشاركة والتكامل، والأديب لابد مرتبط بالعالم من حوله وبالتاريخ والثقافة التي تتجلى في نصوصه بطرق متباينة قد تكون مماثلة أو مخالفة؛ أي إن ثقافته التراثية أو انتماءه يكونان من نفس المسلك وقد يكون العكس بأن ينتهج الأديب الطريق المخالفة ويعتبر موقفه معارضا، وكذلك يمكن أن ينتهج طريقا أخرى غير المعارضة والإتباع مثل موقف الحياد أو التوفيق، وفي كل الحالات فإنّ نصه يتعالق مع عالم النصوص من باب أن لا مفر من ذلك.
مفهوم النص:
يعد مفهوم النص من أكثر المفاهيم اختلافا بين عديد التوجهات والمعارف والنظريات النقدية إلى أنّه يتصل دائما بمعاني المدونة الكلامية التي تميّزه عن الصورة الفوتوغرافية وغيرها، وكذلك يتصل بالحدث على اعتبار تعالقه بالزمن والمكان واستحالة إعادته المطلقة على خلاف الحدث التاريخي، زيادة على اتصال مفهوم النص بالوظيفة التواصلية مع المتلقي لقيامه بفعل الإضافة والتأثير على اختلاف الطريقة والتجربة الوجدانية. كما يتصل مفهوم النص كذلك بالوظيفة التفاعلية التي تهتم بفعل التداول في المجتمع؛ حيث لا يمكن للنص أن يحيا و"يتشكل من خلال القراءة وجوهره ومعناه ليسا وليدي النص بقدر ما هما وليدي التفاعل الداخلي بين أجزائه وتصورات القارئ" ففعل القراءة يبقى دائما عماد خلود النص، ويتطلب من الأديب مراعاة هذا الوجدان من خلال مراعاة التشكيل اللغوي أساسا أو الواجهة الأولى، نجد كذلك أنّ النص يحمل معنى الفضاء الكتابي الايقوني المغلق من جهة والمنفتح من جهة الدلالة والتأويل، فالنص إذن متعدد المفاهيم ولكنه إجمالا "مدونة حدث كلامي ذي وظائف متعددة" .
مما سبق نجد أن لا نص منذ البدء كان نصا حرا، مستقلا، لا دخل للنصوص الأخرى السابقة أو المعاصرة له، وفعل القراءة والتكوين والموهبة يلخص تماما معنى تشكيل النص من نصوص أخرى، أو بحث الفنان عن ذاته الشعرية في بحر نصوص الآخرين فيبدوا النص الشعري اختزالا وصهرا وإنتاجا للنص الجديد، وكذلك تبدو القصيدة في أي مرحلة من مراحل الحياة الإبداعية للشاعر في حالة منفتحة تتقبل دائما النصوص المرافقة، والسابقة لها؛ حيث يأخذ الشاعر في ذلك اعتبار أن نصه يتناص مع نصوص أخرى فيجد نفسه ملزما بالحيطة والحذر من الوقوع في شراك السلبية والتبعية المفرطة التي من شأنها أن تمحو شخصيته الإبداعية، وإن كان الحذر لا يلغي قناعة التناص اللاشعوري الناتج بالضرورة من خلفيات مسبقة في اللاوعي الفردي والجماعي.
مفهوم التناص:
التناص كظاهرة تفرض نفسها بالضرورة في أي نص شعري ليست صفة سلبية أو انتقاصا من قيمة الشعر والشاعر بل العكس من ذلك هو الصحيح، فالخطاب متعدد القيمة هو الخطاب الذي يعتمد تشكيله على الاستحضار الصريح والواضح للنصوص السابقة، وقد أورد تودوروف وديكرو في المعجم الموسوعي لعلوم اللغة أنّ " كل نص هو امتصاص وتحويل لكثير من نصوص أخرى، فالنص الجديد هو إعادة إنتاج لنصوص وأشلاء أخرى، سابقة أو معاصرة، قابعة في الوعي واللاوعي الفردي والجماعي" والشعر إذن انصهار قراءات واستلهام تجارب واكتشاف في لحظات تجلي يصهر فيها الشاعر معارف وتجارب سابقة بوعي أو بلا وعي. ولكن مفهوم التناص Intertextualité في ذاته يختلف من مدرسة نقدية إلى مدرسة أخرى ولكنه يصب دائما في معاني الانصهار والتفاعل الضروري مع مختلف النصوص السابقة فقد عرفته جوليا كريستيفا –التي تعتبر السباقة في استعمال المصطلح- بأنه فسيفساء من نصوص أخرى أو تحويل للنصوص Une permutation du texte يعني واقعه انه "في فضاء نص عددٌ من الملفوظات مستمدة من نصوص أخرى يلغي بعضها بعضا" ومعنى الإلغاء أن النص الجديد يحمل ملامح شخصية الشاعر ويلغي التركيب الجديد بشكله التعالقَ الكلي مع النصوص الأخرى فلا يبقى منها إلا الأثر الظاهر أو الخفي الذي توحي إليه.
يتصل بتعالق النص بالنصوص الأخرى مجموعة من المفاهيم لعل أهمها ما سجله العرب في تراثنا القديم تحت مفهوم السرقات الشعرية التي استفاض فيها النقاد العرب تحت مسميات وأنواع كثيرة حتى لا نكاد نجد أحدا من هؤلاء لم يتطرق إليها؛ بحيث لم يعتبرها أكثر النقاد القدماء دالا على ضعف الشاعر دائما وإنما اعتبروها قضية لم ينج منها شاعر أبدا، ولم يكن الجرجاني "يسمح لنفسه ولا لغيره البت في الحكم بالسرقة فربما قيل إن هذا الشاعر أخذ المعنى من فلان ولم يكن قد سمع به ولا كان على معرفة مسبقة بمعناه" وقد اعتبر الجاحظ أن الأصل في السرقات الشعرية إعجاب المتأخرين بالمتقدمين فيشتركون معهم في اللفظ أو في المعنى، يقول "المعنى الذي تتنازعه الشعراء فتختلف ألفاظهم، وأعاريض أشعارهم ولا يكون أحد منهم أحق بذلك المعنى من صاحبه" ، فجدة التناص كمفهوم نقدي جديد تكمن تماما في الاصطلاح اللفظي، من حيث قبول النقد العربي التراثي وإقراره بحقيقة تنازع الشعراء للمعنى الواحد بألفاظ مختلفة.
إلى جانب قضية السرقة نجد أن التناص يتصل بمفاهيم أخرى كالمعارضة (المحاكاة الشعرية) وكذلك بالمناقضة (المخالفة) أي "اتخاذ كلا من المؤلفين طريقه سائرين وجها لوجه إلى أن يلتقيا في نقطة معينة" كما يقدم مفهوم المعارضة أيضا معنى آخر للتناص وذلك حين يحاكي الأديب عملا أدبيا ما؛ بحيث يتخذه معلما على سبيل الهدي مع الحفاظ عليه وتسمى المحاكاة المقتدية، أو على سبيل السخرية فتكون معارضة ساخرة أو قلب الوظيفة بأن يبقى الهيكل والإطار العام حاضرا وتقلب الوظيفة إلى النقيض، كأن يصبح الجد هزلا أو العكس.
التناص كفعل إلزامي بوعي أو بلا وعي الأديب يتطلب فعلا استقرائيا للكشف عن النص الأصلي أو فك النسيج النصي الجديد للكشف عن النص أو النصوص الغائبة والفاعلة فيه، وقد قدمت الدراسات اللسانية واللسانية النفسية بعض النظريات المتحكمة في فعل إنتاج النص وفعل المشاركة التلقياتية" :
- نظرية الإطار Frame theory: يرى منسكي أن معرفتنا مختزنة في الذاكرة على شكل بنيات معطاة يستعملها الأديب ليلاءم بها وضعا جديدا ناتجا عن تجارب سابقة هي إطاره العام (غرض الغزل تحت إطار وصف الحبيبة).
- نظرية المدوناتScripts : وهي نظرية تعتمد على العلاقة بين المواقف والسلوك وعلاقة الخطاب بالمتلقي على أساس المعارف والاستعدادات المسبقة والمشتركة بينهما فيكون الخطاب اختزالا لها مثل (سافر الرجل إلى الخارج) فيتأسس هذا الخطاب على استعداد المتلقي لمعرفة مقتضيات السفر إلى الخارج كجواز السفر والإجراءات والعملة وغيرها من الاحتمالات، وهي معارف سابقة لدى الأديب والمتلقي معا.
- نظرية الحوار Scenarios: ويقصد بها انسجام الكلام وترابطه بحيث يُتم القارئ ما اختزله الأديب بالضرورة اعتمادا على معارفه( الرجل في المقهى) يستلزم مقابلة النادل....
إن هذه النظريات تشترك جميعا في تكيد قيمة المعارف المسبقة للقارئ والكاتب في عملية إنتاج النص، ويبقى اكتشاف النص الغائب وتحليل النص الرجوع إلى آليات واستراتيجيات تشريحية ووصفية لآليات التناص في مدونة شعرية هي ديوان صهيل خضرا.
استراتيجيات التناص في ديوان صهيل خضرا :
كثيرا ما يطرح السؤال عن مكمن التناص أهو في الشكل أم في المضمون، وقد لا يختلف اثنان أن لا مضمون خارج إطار الشكل، فقد يستقي الشاعر من مصادر عديدة تاريخية أو اجتماعية أو دينية أو غيرها وبالتالي يقدم لتلك المصادر من عندياته الشعرية فتغدوا القصيدة مزيجا من المعارف والخصائص الشاعرية، التي يختزل بها للقارئ مصادر عديدة وبالتالي فإن" قراءة الشاعر/كتابته لم تكن محايدة وإنما كانت تتحكم فيها وتسيرها علة غائبة وهي المقصدية" فأين نص جميلة الرويحي الغائب في خضم هذا البحر من الكلمات المتضمنة ديوانها صهيل خضرا.
تتنامى قصائد جميلة عبر امتداد هندسي لغوي يحمل دلالات تقابلية (بالمعنى العام) وهي دلالات تعكس تماما ما سماه التناص بالشكل الدرامي أو تنامي صور الصراع، وهو السمة العامة في نصوص الشاعرة، صراع على مستوى اللغة بدءا ببنية العناوبن الثنائية إلى هيكل الصراع اللغوي الذي تصوره الشاعرة في نصوصها بين أرض والانسان/ المظلوم والظالم/العرب واليهود/ الماضي العظيم/ الحاضر الهزيل...إلى غيرها من الثنائيات الضدية المصورة للتشكيل الدرامي على مستوى الشكل كدال وعلى مستوى الدلالة . وللكشف عن هذا التشكيل أو عن هذه السمة العامة أو ما نسميه النص الغائب نقتفي أثر ذلك باستقصاء تقنيات التناص في نصوص الشاعرة ومقابلتها كدوال مع ما تدل عليه ومن ثم نحدد مدى تشاكل هندسة النص اللغوية والدلالية مع الملمح العام للنصوص وهو الحزن والغضب من الواقع المرير والأمل في البعث العربي والنهوض بالأرض العربية (الخضراء) وبعث أمجادها، وبين الألم والأمل تتراوح الشاعرة بنشر حليها وجمالياتها الشاعرية.
وللكشف عنها نفصلها بتحليل تقنيات التمطيط في نص سماء الجنوب وتقنيات الإيجاز في نص صهيل خضرا:
- التكرار: يعتبر من أهم تقنيات التناص المتعلقة بالتركيب اللغوي الدال على التمطيط ويعكس الدلالة العامة للقصيدة وهي الحزن والغضب للأرض العربية، وقد ورد على أشكال كثيرة، الجملة (خسئوا ورب البيت) الأفعال بأنواعها (أتسمع، أتسمع/احذر/ قادمون....) الحرف (أن) الأسماء(أمي /الساق...) النداء(يا عرب / يا وطن /أيا ..أم/ أيها الماضون...).
- الأناغرام: والمقصود به الجناس بالقلب وبالتصحيف، وقد وظفته الشاعرة في بعض الأحيان بطريقة تعليمية توحي بغلبة صوت الأستاذة العارف بخبايا اللغة وهي غلبة يقع فيها أكثر الشعراء الأكاديميين منها (الرقعة/البقعة)،(موق/ترمق) 1- استراتيجية التمطيط في نص سماء الجنوب: ، (عتوا/عثوا) في قصيدة "إيه يا زباء"
- الباراغرام: والمقصود به الكلمة المحور التي يدور في فلكها فضاء نصي معيّن، وفي نص سماء الجنوب يمكن تحديد مقطع واحد في أواخر القصيدة يماثل ما قدمه التركيب اللغوي للعنوان سماء الجنوب كدال للأرض العربية وهو مقطع(أمنية أجدادي/أحلام أحفادي)، فيمكن اعتباره المحور الأساس الذي تدور حوله القصيدة في شكل التداعي وما يحمله من جماليات بلاغية ترسم تماهي الشاعرة مع الأرض من خلال الاستعارة التي بعثت الحياة في الجمادات (أنين الأرض/ ذراعي بندقية....).
- الشرح: وهي تقنية وظفتها الشاعرة في الإطار العام لاستراتيجية التمطيط التناصي والذي يعكس فعل التداعي في نص سماء الجنوب ويمكن اعتبار فعل التداعي بذاته دالا يقابله امتداد الأرض العربية وعمق الجرح الفلسطيني الذي خفي تحت رداء النص وأبرزه فعل التداعي، وتقنية الشرح ألمحت إليه أكثر في منعرج القصيدة(في اليوم الموعود) فمنذ هذا المقطع نجد ما يليه يشرحه في فعل تداعي واضح(في اليوم الموعود/ أخبريهم/أبنائي /الأول.../ والآخر/ وأما ابنتي.../ وطفلتي /وعادوا إلي..).
- ايقونية الكتابة: إن تقنيات التمطيط السابقة والمندرجة تحت إطار التداعي الذي ميّز نص سماء الجنوب يشكّل فضاء كتابيا ممتدا في مساحة كتابية/ايقونية طويلة(18 صفحة) وهي مساحة دالة تعكس فعلين أساسين أحدهما امتداد الأرض والآخر عمق التفاعل بين الشاعرة والنص ودليله التماهي العاطفي في لاوعي الشاعرة المنعكس على طريقة كتابتها الشعرية.
-استحضار التراث الشعبي: قدمت الشاعرة عناصر تناصية للتراث الشعبي وإن كانت بطريقة إحالة محضة في (أوه يا مالي) ، (يا ذيب يا اللي توجع القلب بعواك، وأضن حالك صايرة مثل حالي)
-استحضار التراث الإسلامي: نجمع إليه التاريخ الإسلامي في نداء (وامعتصماه) و(أبابيل الشك) ، والتناص مع القرآن (آي النون و الإنسان) ، (النخل ذات الأكمام)
-استحضار التراث العربي: ونجمع إليه التاريخ العربي في(أيا حرب البسوس) وشخصيات تاريخية(مهلهل، زباء) (عل الخليفة يعيد ماضيانا) والأمثال العربية التراثية(رمية بشسع كليب) الشعر العربي( فيوما يشب مع الخروب خمودها/ ويطفئ للحروب وقودها) ،( وإذا لم يكن من الموت بد/ فمن العجز أن تكون جبانا)
-الأسطورة: وظفت الشاعرة صنفين من الأسطورة اليونانية (اوزيس) والعربية (العنقاء)
إنّ تعامل الشاعرة مع هذا الكم من النصوص يبرز إلى حد بعيد شخصيتها الشعرية في صياغة قصيدتها، وطريقتها في تفعيل مصادر متعددة، غير أن ما يستوقفنا في اشتغال تقنيات التناص هو عنصر المقصدية أو رؤية الشاعرة للمصدر، بحيث نجدها مثلا تساير رؤية تاريخية حقيقية في استحضار وفاء المهلهل لتشابه الحالة في الواقع الذي تقصد إليه الشاعرة أي غياب الوفاء، والأمر نفسه في استحضار صيحة المسلمة (وامعتصماه) حيث اتفقت رؤية الشاعرة مع حقيقة التناص التاريخي من باب حرقة الشاعرة للخلاص الاسلامي من ضعف المسلمين وتراخيهم عن نصرة الأرض العربية(الخضراء). بينما نجد الشاعرة في توظيفها لعناصر أخرى تعكس ما ورد عليه الأصل وهي طريقة ممتازة بالنظر إلى تجربة الشاعرة، مثل تناصها مع الأسطورة اليونانية ممثلة في شخصية (اوزيس) فقد جعلته انتظر وينتظر بعيدا، و الانتظار يعتبر موقف سلبي في وقت يتطلب من المحارب التحرك، بينما حضوره فاعل وقوي في الأصل الأسطوري، فقد يعكس هذا التوظيف رؤية الشاعرة للواقع الرديء للعرب وللمسلمين تجاه الأرض المغتصبة أو تجاه (القضية) الأساسية.
إن قضية التناص سواء على مستوى الشكل في قصيدة سماء الجنوب أو الإيجاز كما في القصائد الأخرى تعبّر عن ثقافة الشاعرة وتعدّد مصادر شاعريتها، وإن كانت الأمثلة التي أوردناها عينات تفتقر إلى الشرح والتوسع ولأن الفضاء النصي مقال فقط، فقد ارتأينا أن نمثّل لقضية التناص من دون توسع لأن ذلك يحتاج دراسة مطولة لمجموعات جميلة الرويحي كاملة.
جميلة الرويحي
.....................
بقلم الناقد: عموري السعيد
قسم اللغة العربية وآدابها
جامعة عبد الرحمن ميرة- بجاية- الجزائر.
..................
مقدمة:
عندما نقرأ نصوص جميلة الرويحي الشعرية في ديوانها صهيل خضرا نجد أنفسنا أمام مجموعة متباينة من الخطابات التواصلية الخاصة, فسيفساء بألوان الشاعرية متعددة المصادر والمناهل من تراثنا العربي الغني الذي يتناثر بين طيات القصائد إلى توظيف للأساطير اليونانية؛ حيث تبدو فيها النصوص حلة لغوية منفتحة على القراءة والتأويل بما اكتسبته من غنى دلالي ومكونات رمزية وأسطورية ولغوية تراثية. غير أن هذا الغنى الظاهر في مستويات الكتابة الشعرية عند الشاعرة جميلة الرويحي يطرح عديد الأسئلة تتعلق بالعلاقة التي تبنيها الشاعرة مع القارئ من خلال ما تقدمه من نصوص فنتساءل إلى أي قارئ تبني الشاعرة جسرها الشعري؟ و ما هي اسس بناء قصيدتها وبالتالي ما هي ملامح وأسس شخصيتها الشعرية؟
لمقاربة واستقصاء النص الشعري الرويحي وتحديد ملامحه، تفرض قضية التناص نفسها كقضية نقدية حداثية لها مكانتها عند النقاد الجدد من حيث إن كل النصوص لا يمكن أن تكون وليدة فراغ أو منفصلة عن غيرها مما سبقها أو عاصرها اعترافا من النقد بعلاقات التأثير والتأثر بين النصوص على اختلاف أجناسها وهوياتها، كما أنه دليل على اقتدار الشاعر وتفوقه في صقل موهبته واستعداداته الفنية. من أجل ذلك ولأن نصوص جميلة الرويحي في صهيل خضرا غنية ومتنوعة فقد نلاحظ غياب الشاعرة في نصوصها في بعض الأحيان ويعلو صوت الأستاذة والمعلمة بينما في أحايين أخرى نسمع صوت الشاعرة المرأة التي تخاطب بنص شعري نفسها وقارئا تفترض أنه في مستوى التقاط النص الغائب.
المقالة التالية أردنا من خلالها أن نسلط الضوء على نص الشاعرة والتقاط النص الحقيقي لها أو تحديد النصوص الفاعلة في تشكيل نصوص صهيل خضرا تحت عنوان "جماليات التناص في ديوان صهيل خضرا لجميلة الرويحي" وقد ركزنا فيه على تقنيات واستراتيجيات التناص كما جاء في اللسانيات واللسانيات النفسية، من دون إغفال أصل المصطلح في الدرس العربي التراثي مع الانفتاح على القراءة التأويلية المؤسسة على ما تقدمه استراتيجيات التناص في المدونة الشعرية قيد الدراسة.
تقدم هذه المقالة مساهمة بسيطة لا يمكن أن تفي حق المدونة الشعرية التي يتطلب الوقوف على جماليات التناص فيها دراسة مستفيضة، نظرا لما تزخر به من غنى في الشكل يعكس تعدد مصادر التجربة الشعرية عند جميلة الرويحي.
في مفهوم التناص:
يقرّر لانسون أن" ثلاثة أرباع المبدع مكوّن من غير ذاته" لأنّ عالم الكتابة الإبداعية أو عالم الكلمات يخضع في عرف المبدعين إلى الاختيار أو الطريقة التي يتم فيها التعامل مع الكلمات في عالم لا حدود له، يقول شيكلوفسكي "الفنان ينمو في عالم مليء بكلمات الآخرين، فيبحث في حضنها عن طريقه" . والقصيدة الشعرية هي تركيبة جديدة بكلمات مشتركة بين الآخرين ميزتها أنها بحلة الشاعر وباسمه الخاص وأسلوبه الخاص، يراعي فيها موهبته وحدود تفاعل نصه مع المتلقي في نقاط تقاطع لا بد منها لإتمام فعل التواصل والتفاعل. ولتحديد مفهوم التناص لا بد من أن نحدّد مفهوم النص ذاته؛ لأنّ أي شكل أدبي قصيدة أو رواية أو غيرها يختلف في تحديد مفهومه على حسب رؤية الشكل والوظيفة وكذلك على حسب الخلفيات المنهجية والابستيمولوجية للجنس الأدبي على اعتبار أن الإنتاج الإبداعي يخضع للمشاركة والتكامل، والأديب لابد مرتبط بالعالم من حوله وبالتاريخ والثقافة التي تتجلى في نصوصه بطرق متباينة قد تكون مماثلة أو مخالفة؛ أي إن ثقافته التراثية أو انتماءه يكونان من نفس المسلك وقد يكون العكس بأن ينتهج الأديب الطريق المخالفة ويعتبر موقفه معارضا، وكذلك يمكن أن ينتهج طريقا أخرى غير المعارضة والإتباع مثل موقف الحياد أو التوفيق، وفي كل الحالات فإنّ نصه يتعالق مع عالم النصوص من باب أن لا مفر من ذلك.
مفهوم النص:
يعد مفهوم النص من أكثر المفاهيم اختلافا بين عديد التوجهات والمعارف والنظريات النقدية إلى أنّه يتصل دائما بمعاني المدونة الكلامية التي تميّزه عن الصورة الفوتوغرافية وغيرها، وكذلك يتصل بالحدث على اعتبار تعالقه بالزمن والمكان واستحالة إعادته المطلقة على خلاف الحدث التاريخي، زيادة على اتصال مفهوم النص بالوظيفة التواصلية مع المتلقي لقيامه بفعل الإضافة والتأثير على اختلاف الطريقة والتجربة الوجدانية. كما يتصل مفهوم النص كذلك بالوظيفة التفاعلية التي تهتم بفعل التداول في المجتمع؛ حيث لا يمكن للنص أن يحيا و"يتشكل من خلال القراءة وجوهره ومعناه ليسا وليدي النص بقدر ما هما وليدي التفاعل الداخلي بين أجزائه وتصورات القارئ" ففعل القراءة يبقى دائما عماد خلود النص، ويتطلب من الأديب مراعاة هذا الوجدان من خلال مراعاة التشكيل اللغوي أساسا أو الواجهة الأولى، نجد كذلك أنّ النص يحمل معنى الفضاء الكتابي الايقوني المغلق من جهة والمنفتح من جهة الدلالة والتأويل، فالنص إذن متعدد المفاهيم ولكنه إجمالا "مدونة حدث كلامي ذي وظائف متعددة" .
مما سبق نجد أن لا نص منذ البدء كان نصا حرا، مستقلا، لا دخل للنصوص الأخرى السابقة أو المعاصرة له، وفعل القراءة والتكوين والموهبة يلخص تماما معنى تشكيل النص من نصوص أخرى، أو بحث الفنان عن ذاته الشعرية في بحر نصوص الآخرين فيبدوا النص الشعري اختزالا وصهرا وإنتاجا للنص الجديد، وكذلك تبدو القصيدة في أي مرحلة من مراحل الحياة الإبداعية للشاعر في حالة منفتحة تتقبل دائما النصوص المرافقة، والسابقة لها؛ حيث يأخذ الشاعر في ذلك اعتبار أن نصه يتناص مع نصوص أخرى فيجد نفسه ملزما بالحيطة والحذر من الوقوع في شراك السلبية والتبعية المفرطة التي من شأنها أن تمحو شخصيته الإبداعية، وإن كان الحذر لا يلغي قناعة التناص اللاشعوري الناتج بالضرورة من خلفيات مسبقة في اللاوعي الفردي والجماعي.
مفهوم التناص:
التناص كظاهرة تفرض نفسها بالضرورة في أي نص شعري ليست صفة سلبية أو انتقاصا من قيمة الشعر والشاعر بل العكس من ذلك هو الصحيح، فالخطاب متعدد القيمة هو الخطاب الذي يعتمد تشكيله على الاستحضار الصريح والواضح للنصوص السابقة، وقد أورد تودوروف وديكرو في المعجم الموسوعي لعلوم اللغة أنّ " كل نص هو امتصاص وتحويل لكثير من نصوص أخرى، فالنص الجديد هو إعادة إنتاج لنصوص وأشلاء أخرى، سابقة أو معاصرة، قابعة في الوعي واللاوعي الفردي والجماعي" والشعر إذن انصهار قراءات واستلهام تجارب واكتشاف في لحظات تجلي يصهر فيها الشاعر معارف وتجارب سابقة بوعي أو بلا وعي. ولكن مفهوم التناص Intertextualité في ذاته يختلف من مدرسة نقدية إلى مدرسة أخرى ولكنه يصب دائما في معاني الانصهار والتفاعل الضروري مع مختلف النصوص السابقة فقد عرفته جوليا كريستيفا –التي تعتبر السباقة في استعمال المصطلح- بأنه فسيفساء من نصوص أخرى أو تحويل للنصوص Une permutation du texte يعني واقعه انه "في فضاء نص عددٌ من الملفوظات مستمدة من نصوص أخرى يلغي بعضها بعضا" ومعنى الإلغاء أن النص الجديد يحمل ملامح شخصية الشاعر ويلغي التركيب الجديد بشكله التعالقَ الكلي مع النصوص الأخرى فلا يبقى منها إلا الأثر الظاهر أو الخفي الذي توحي إليه.
يتصل بتعالق النص بالنصوص الأخرى مجموعة من المفاهيم لعل أهمها ما سجله العرب في تراثنا القديم تحت مفهوم السرقات الشعرية التي استفاض فيها النقاد العرب تحت مسميات وأنواع كثيرة حتى لا نكاد نجد أحدا من هؤلاء لم يتطرق إليها؛ بحيث لم يعتبرها أكثر النقاد القدماء دالا على ضعف الشاعر دائما وإنما اعتبروها قضية لم ينج منها شاعر أبدا، ولم يكن الجرجاني "يسمح لنفسه ولا لغيره البت في الحكم بالسرقة فربما قيل إن هذا الشاعر أخذ المعنى من فلان ولم يكن قد سمع به ولا كان على معرفة مسبقة بمعناه" وقد اعتبر الجاحظ أن الأصل في السرقات الشعرية إعجاب المتأخرين بالمتقدمين فيشتركون معهم في اللفظ أو في المعنى، يقول "المعنى الذي تتنازعه الشعراء فتختلف ألفاظهم، وأعاريض أشعارهم ولا يكون أحد منهم أحق بذلك المعنى من صاحبه" ، فجدة التناص كمفهوم نقدي جديد تكمن تماما في الاصطلاح اللفظي، من حيث قبول النقد العربي التراثي وإقراره بحقيقة تنازع الشعراء للمعنى الواحد بألفاظ مختلفة.
إلى جانب قضية السرقة نجد أن التناص يتصل بمفاهيم أخرى كالمعارضة (المحاكاة الشعرية) وكذلك بالمناقضة (المخالفة) أي "اتخاذ كلا من المؤلفين طريقه سائرين وجها لوجه إلى أن يلتقيا في نقطة معينة" كما يقدم مفهوم المعارضة أيضا معنى آخر للتناص وذلك حين يحاكي الأديب عملا أدبيا ما؛ بحيث يتخذه معلما على سبيل الهدي مع الحفاظ عليه وتسمى المحاكاة المقتدية، أو على سبيل السخرية فتكون معارضة ساخرة أو قلب الوظيفة بأن يبقى الهيكل والإطار العام حاضرا وتقلب الوظيفة إلى النقيض، كأن يصبح الجد هزلا أو العكس.
التناص كفعل إلزامي بوعي أو بلا وعي الأديب يتطلب فعلا استقرائيا للكشف عن النص الأصلي أو فك النسيج النصي الجديد للكشف عن النص أو النصوص الغائبة والفاعلة فيه، وقد قدمت الدراسات اللسانية واللسانية النفسية بعض النظريات المتحكمة في فعل إنتاج النص وفعل المشاركة التلقياتية" :
- نظرية الإطار Frame theory: يرى منسكي أن معرفتنا مختزنة في الذاكرة على شكل بنيات معطاة يستعملها الأديب ليلاءم بها وضعا جديدا ناتجا عن تجارب سابقة هي إطاره العام (غرض الغزل تحت إطار وصف الحبيبة).
- نظرية المدوناتScripts : وهي نظرية تعتمد على العلاقة بين المواقف والسلوك وعلاقة الخطاب بالمتلقي على أساس المعارف والاستعدادات المسبقة والمشتركة بينهما فيكون الخطاب اختزالا لها مثل (سافر الرجل إلى الخارج) فيتأسس هذا الخطاب على استعداد المتلقي لمعرفة مقتضيات السفر إلى الخارج كجواز السفر والإجراءات والعملة وغيرها من الاحتمالات، وهي معارف سابقة لدى الأديب والمتلقي معا.
- نظرية الحوار Scenarios: ويقصد بها انسجام الكلام وترابطه بحيث يُتم القارئ ما اختزله الأديب بالضرورة اعتمادا على معارفه( الرجل في المقهى) يستلزم مقابلة النادل....
إن هذه النظريات تشترك جميعا في تكيد قيمة المعارف المسبقة للقارئ والكاتب في عملية إنتاج النص، ويبقى اكتشاف النص الغائب وتحليل النص الرجوع إلى آليات واستراتيجيات تشريحية ووصفية لآليات التناص في مدونة شعرية هي ديوان صهيل خضرا.
استراتيجيات التناص في ديوان صهيل خضرا :
كثيرا ما يطرح السؤال عن مكمن التناص أهو في الشكل أم في المضمون، وقد لا يختلف اثنان أن لا مضمون خارج إطار الشكل، فقد يستقي الشاعر من مصادر عديدة تاريخية أو اجتماعية أو دينية أو غيرها وبالتالي يقدم لتلك المصادر من عندياته الشعرية فتغدوا القصيدة مزيجا من المعارف والخصائص الشاعرية، التي يختزل بها للقارئ مصادر عديدة وبالتالي فإن" قراءة الشاعر/كتابته لم تكن محايدة وإنما كانت تتحكم فيها وتسيرها علة غائبة وهي المقصدية" فأين نص جميلة الرويحي الغائب في خضم هذا البحر من الكلمات المتضمنة ديوانها صهيل خضرا.
تتنامى قصائد جميلة عبر امتداد هندسي لغوي يحمل دلالات تقابلية (بالمعنى العام) وهي دلالات تعكس تماما ما سماه التناص بالشكل الدرامي أو تنامي صور الصراع، وهو السمة العامة في نصوص الشاعرة، صراع على مستوى اللغة بدءا ببنية العناوبن الثنائية إلى هيكل الصراع اللغوي الذي تصوره الشاعرة في نصوصها بين أرض والانسان/ المظلوم والظالم/العرب واليهود/ الماضي العظيم/ الحاضر الهزيل...إلى غيرها من الثنائيات الضدية المصورة للتشكيل الدرامي على مستوى الشكل كدال وعلى مستوى الدلالة . وللكشف عن هذا التشكيل أو عن هذه السمة العامة أو ما نسميه النص الغائب نقتفي أثر ذلك باستقصاء تقنيات التناص في نصوص الشاعرة ومقابلتها كدوال مع ما تدل عليه ومن ثم نحدد مدى تشاكل هندسة النص اللغوية والدلالية مع الملمح العام للنصوص وهو الحزن والغضب من الواقع المرير والأمل في البعث العربي والنهوض بالأرض العربية (الخضراء) وبعث أمجادها، وبين الألم والأمل تتراوح الشاعرة بنشر حليها وجمالياتها الشاعرية.
وللكشف عنها نفصلها بتحليل تقنيات التمطيط في نص سماء الجنوب وتقنيات الإيجاز في نص صهيل خضرا:
- التكرار: يعتبر من أهم تقنيات التناص المتعلقة بالتركيب اللغوي الدال على التمطيط ويعكس الدلالة العامة للقصيدة وهي الحزن والغضب للأرض العربية، وقد ورد على أشكال كثيرة، الجملة (خسئوا ورب البيت) الأفعال بأنواعها (أتسمع، أتسمع/احذر/ قادمون....) الحرف (أن) الأسماء(أمي /الساق...) النداء(يا عرب / يا وطن /أيا ..أم/ أيها الماضون...).
- الأناغرام: والمقصود به الجناس بالقلب وبالتصحيف، وقد وظفته الشاعرة في بعض الأحيان بطريقة تعليمية توحي بغلبة صوت الأستاذة العارف بخبايا اللغة وهي غلبة يقع فيها أكثر الشعراء الأكاديميين منها (الرقعة/البقعة)،(موق/ترمق) 1- استراتيجية التمطيط في نص سماء الجنوب: ، (عتوا/عثوا) في قصيدة "إيه يا زباء"
- الباراغرام: والمقصود به الكلمة المحور التي يدور في فلكها فضاء نصي معيّن، وفي نص سماء الجنوب يمكن تحديد مقطع واحد في أواخر القصيدة يماثل ما قدمه التركيب اللغوي للعنوان سماء الجنوب كدال للأرض العربية وهو مقطع(أمنية أجدادي/أحلام أحفادي)، فيمكن اعتباره المحور الأساس الذي تدور حوله القصيدة في شكل التداعي وما يحمله من جماليات بلاغية ترسم تماهي الشاعرة مع الأرض من خلال الاستعارة التي بعثت الحياة في الجمادات (أنين الأرض/ ذراعي بندقية....).
- الشرح: وهي تقنية وظفتها الشاعرة في الإطار العام لاستراتيجية التمطيط التناصي والذي يعكس فعل التداعي في نص سماء الجنوب ويمكن اعتبار فعل التداعي بذاته دالا يقابله امتداد الأرض العربية وعمق الجرح الفلسطيني الذي خفي تحت رداء النص وأبرزه فعل التداعي، وتقنية الشرح ألمحت إليه أكثر في منعرج القصيدة(في اليوم الموعود) فمنذ هذا المقطع نجد ما يليه يشرحه في فعل تداعي واضح(في اليوم الموعود/ أخبريهم/أبنائي /الأول.../ والآخر/ وأما ابنتي.../ وطفلتي /وعادوا إلي..).
- ايقونية الكتابة: إن تقنيات التمطيط السابقة والمندرجة تحت إطار التداعي الذي ميّز نص سماء الجنوب يشكّل فضاء كتابيا ممتدا في مساحة كتابية/ايقونية طويلة(18 صفحة) وهي مساحة دالة تعكس فعلين أساسين أحدهما امتداد الأرض والآخر عمق التفاعل بين الشاعرة والنص ودليله التماهي العاطفي في لاوعي الشاعرة المنعكس على طريقة كتابتها الشعرية.
-استحضار التراث الشعبي: قدمت الشاعرة عناصر تناصية للتراث الشعبي وإن كانت بطريقة إحالة محضة في (أوه يا مالي) ، (يا ذيب يا اللي توجع القلب بعواك، وأضن حالك صايرة مثل حالي)
-استحضار التراث الإسلامي: نجمع إليه التاريخ الإسلامي في نداء (وامعتصماه) و(أبابيل الشك) ، والتناص مع القرآن (آي النون و الإنسان) ، (النخل ذات الأكمام)
-استحضار التراث العربي: ونجمع إليه التاريخ العربي في(أيا حرب البسوس) وشخصيات تاريخية(مهلهل، زباء) (عل الخليفة يعيد ماضيانا) والأمثال العربية التراثية(رمية بشسع كليب) الشعر العربي( فيوما يشب مع الخروب خمودها/ ويطفئ للحروب وقودها) ،( وإذا لم يكن من الموت بد/ فمن العجز أن تكون جبانا)
-الأسطورة: وظفت الشاعرة صنفين من الأسطورة اليونانية (اوزيس) والعربية (العنقاء)
إنّ تعامل الشاعرة مع هذا الكم من النصوص يبرز إلى حد بعيد شخصيتها الشعرية في صياغة قصيدتها، وطريقتها في تفعيل مصادر متعددة، غير أن ما يستوقفنا في اشتغال تقنيات التناص هو عنصر المقصدية أو رؤية الشاعرة للمصدر، بحيث نجدها مثلا تساير رؤية تاريخية حقيقية في استحضار وفاء المهلهل لتشابه الحالة في الواقع الذي تقصد إليه الشاعرة أي غياب الوفاء، والأمر نفسه في استحضار صيحة المسلمة (وامعتصماه) حيث اتفقت رؤية الشاعرة مع حقيقة التناص التاريخي من باب حرقة الشاعرة للخلاص الاسلامي من ضعف المسلمين وتراخيهم عن نصرة الأرض العربية(الخضراء). بينما نجد الشاعرة في توظيفها لعناصر أخرى تعكس ما ورد عليه الأصل وهي طريقة ممتازة بالنظر إلى تجربة الشاعرة، مثل تناصها مع الأسطورة اليونانية ممثلة في شخصية (اوزيس) فقد جعلته انتظر وينتظر بعيدا، و الانتظار يعتبر موقف سلبي في وقت يتطلب من المحارب التحرك، بينما حضوره فاعل وقوي في الأصل الأسطوري، فقد يعكس هذا التوظيف رؤية الشاعرة للواقع الرديء للعرب وللمسلمين تجاه الأرض المغتصبة أو تجاه (القضية) الأساسية.
إن قضية التناص سواء على مستوى الشكل في قصيدة سماء الجنوب أو الإيجاز كما في القصائد الأخرى تعبّر عن ثقافة الشاعرة وتعدّد مصادر شاعريتها، وإن كانت الأمثلة التي أوردناها عينات تفتقر إلى الشرح والتوسع ولأن الفضاء النصي مقال فقط، فقد ارتأينا أن نمثّل لقضية التناص من دون توسع لأن ذلك يحتاج دراسة مطولة لمجموعات جميلة الرويحي كاملة.